الخميس، 8 أبريل 2010

كانت طفلة

كانت طفلهْ …
وقفت على الرصيف بقامتها الممشوقة،
وفستانها الزهري الذي يتماوج مع نسائم الصيف الدافئة، يبوح سخيا ببعض مفاتنها،
ويخفي في مكر بعضها الآخر،
تكاد تخفي وجهها تحت نظارتها الشمسية الكبيرة، متأملة من خلفها عالما غريبا ومعاديا:
رجال ..نساء… أطفال .. رجال… فتيات …شبان …
يمرون أمامها وكأنهم يتعاقبون في شريط سينمائي قديم ..
منهم من يلعقها بنظراته الجائعة من قمة رأسها حتى أخمصي قدميها، مادا لسانه ككلب مسعور..
ومن يدفن عينيه في همومه، يمر بها ولا يكاد يلحظ وجودها..
ومن يزدريها فتتساقط عليها نظراته كبصقة المسلول..
ولكنها كانت تتلقى نظراتهم ببرود محايد،
وكأنها جسد بلا روح…
قطعة خشب قديمة تلا عب بها الموج قبل أن يرمى بها على الساحل بين الأصداف والقواقع…
*****
وفجأة مرت طفلة ..
وفي أعماق بركة الثلج الساكنة .. اتقدت جمرة حمراء حارقة .. دمعة ومضت خلف زجاج النظارات ، تدحرجت على الوجنتين ثم اختفت..
هي أيضا كانت يوما ما طفلة،
ولها دمية جميلة شقراء تحبها .. وظفيرتان .. وقبلة حانية عند الوداع تناديها بدلال : بنيتي..
وتمسح عن جبينها الوردي أطياف الساحرة الشريرة وغيلان الكهوف البعيدة، وتنشد لها قبل أن تنام أغنيات الفرح والسعادة ..ويدا تضمها بحنان عند العودة وتدس في أذنيها همسات المحبة.. . وفي فمها قطع الحلوى اللذيذة..
وكانت لها شرفة مشرعة على السماء الزرقاء، وأقفاص ذهبية تربي فيها طيور الأماني، تطعمها كل صباح من مهجة قلبها.. وتسقيها بماء الأمل.. وحين تطبق جيوش المساء على المدينة، تخبئها في دولاب سري في قلبها.. وتنام بين أجنحة الملائكة..
وفي أمسيات الصيف عندما تداعب شعرها نسائم الأصيل الندية،ويزهر في قلبها الصغير نداء الحياة، تراود الفتى الجميل في خيالها، وتترقب حصانه الأبيض يطرق بحافره باب شرفتها ويطير بها على جناح غيمة..
كانت طفلة ..
قبل أن يصفق أبوها باب البيت خلف ظهره ذات مساء حزين.. ويتوارى إلى الأبد..
قبل أن يهوي هرم الرجولة من عليائه .. وتتدحرج أحجاره وتتساوى مع الأرض .. ولا يبقى من صوته الجوهري الذي كان يشغل الحيز كله ، غير شارب كث يتصدر برواز صورة معلقة على جدار مهجور في غرفة الجلوس..
وذكرى يد معروقة كانت تمسح دمعها بهدية جميلة .. ورائحة تبغ نفاذة، ومعطف داكن طويل يلوح على ناصية الدرب فتشير إليه باعتزاز وتقول : ذاك أبي..وتطير إلى أحضانه وتهتف بكل براءة الأطفال: خبئني في معطفك يا أبي..
لكنه رحل.. اختفى في ليل معطفه الأسود الداكن وغاب..
من يومها قصت رؤوس أقلامها، وأطعمت ألسنة اللهب الممتدة من المدفأة كتبها ودفاترها وقررت أن تبعثر باقة أزهار صباها وطفولتها على قارعة الرصيف…
كانت طفلة ..
قبل أن تتيه بها دروب الضياع وتنحدر بها نحو الهاوية السحيقة ..
قبل أن تسيح على بياض طفولتها بقعة دم حمراء قانية.. فتلطخ نقاءها..وتسلبها براءة الطفولة.. وتسرق منها ما لا يعوض..
كانت طفلة وكان لها اسم جميل وأبوان يرعيانها..
ولكن مثلما تمحو أمواج البحر آثار خطى العابرين محت الأيام ماضيها..
ما عادت طفلة …
أصبحت بنتا من بنات الرصيف..

هناك تعليقان (2):

  1. السلا عليكم أخي العزيز.

    سرد جميل ووصف رائع لبنت أناخ الزمان عليها بكلكله، فغد الشارع والرصيف مأواها.
    أسلوبك أخي ناجي أسلوب جذاب، يعزف سمفونيات اللغة ببراعة..

    ردحذف
  2. أخي العزيز أرحب بك في بلوقر أتمنى أن تجد مساحة رحبة هنا لإبداعاتك.

    لقد قمت بالتسجيل، وهذا شرف لي.

    أشكرك على كلماتك التي تنير بها مدونتي دائما.

    دمت بخير.

    ردحذف